عفنان شاب في منتصف عقده الثالث ، شخصية مرحة ، يتمتع بروح رياضية مفعمة بالنشاط والحيوية .. يهيم في شعر المحاورة ، ويحفظ الكثير منه ، ويعرف مشاهير شعراء المحاورة.

ويقتني الكثير من أشرطة أشهر شعراء المحاورة ، ويتغنى بما يتميز منها لديه وهو يمارس عمله .. ويطرب من حوله بصوته الشجي وهو منصرف من التمارين الرياضية .

ويلفت الحضور بصوته العذب في صالة انتظار الرجال بقسم العيادات في المستشفيات.. وتنهي زوجته تلك المراجعة ويغادر الصالة بعد أن ترك وراءه صنفين من المراجعين ؛ صنف تمنوا أنه بقي بينهم ليستمتعوا بتغاريده الجميلة ، وصنف آخر ما ( صدّقوا) أنه ( ذلف ) عنهم ، وهم الذين لا يحبون الشعر ولا ( يطيقون ) سماعه، ويحل عليهم السكون والصمت الرهيب ، ينتظرون على أحر من الجمر خروج زوجاتهم من العيادة .

ويستمتع بأعذب الألحان الشعرية في الأسفار ، أو في حال إبدال كفر معطوب ، بل و في أيّ عمل يقوم به ، أو في حال تعلقت سيارته بــرمثة في الصحراء وعليه أن يجتثها ( بكريك ، أو فاروع ، أو عتلة )؛ وبحذر خوفاً من الجحر الذي في أسفل الرمثة أن تكون به أفعى متربصة..!!..

ويستطرد في الألحان ويطول صوته الشجي إن كانت حصيلته من الصيد في ذلك اليوم جيدة .. يتتبع قصور الأفراح في المواسم الصيفية بعد منتصف الليل ، وكلما اقترب من قصر أخرج رأسه من سيارته وشنف بأذنيه؛ فإن سمع لحن شاعر ، أو تصفيق صفوف ، حينها يوقف سيارته بأقرب موقف وينطلق والابتسامة تعلو محياه .

يدخل القصر دون أن يلتفت إليه أحد ، ويحاول أن لا يثير انتباه ( المعازيب ) له ، يقترب من الصفوف فتتسع حدقة عينيه فيتسمر بالصفوف وبالشاعِرَين ، فينظم لمن يعجبه .

ذات يوم سلّمه صديقه المقرب كرت دعوة زواج لأحد الأقارب بقرية تقع وسط جبال شاهقة ، وأودية عملاقة ، وتضاريس في غاية الوعورة ، ورمال متراكمة ، وأودية موحشة .. ويضيف إليه صديقه أنه سيحضر المناسبة اثنين من كبار شعراء المحاورة المشهورين على الساحة ، فاتفقا على أن يحضرا تلك المناسبة سوياً ..

وفي ذلك اليوم غادرا المنطقة قاصدين القرية عبر طريق صحراوي تشتد وعورته في أغلب الأماكن بمسافة تزيد عن الخمسين كيلاً ، فاستمتعا تلك الليلة بالحفل البهيج ، فكانت ليلة محاورة في غاية الروعة والإبداع ، بعد انتهاء الحفل في الساعات الأخيرة من الليل قبيل الفجر ، غادر الشاب عفنان الحفل بمفرده دون صديقه المقرب كون ذلك الصديق من تلك القرية وتقتضي الظروف بقاءه بالقرية لعدة أيام ..

غادر الشاب عفنان مقر الاحتفال بعد أن استمتع بليلة شعرية ممتعة وذلك قبيل الفجر بساعات قليلة ، فتذكر أن طريقه الوحيد يمر بمنطقة تكثر الأقوال والأساطير أنها منطقة جان ، وتتربص بالعابرين لها في الليل البهيم ، رغم أنه لا دليل على ذلك ، فاستسلم عفنان لهذه الأوهام وأخذ يفكر بجدية بمروره عبر تلك المنطقة المشؤومة ، أقبل على تلك المنطقة واشتدت وعورة الطريق عند عبورها ، دخل حدود المنطقة المشؤومة وزاده خوفه من توجسه من أن أمر ما سيصيبه .

حاول أن يصرف ذهنه ويشتت أفكاره إلا أن الخوف تملكه وسيطر عليه ، أراد أن يستمع لصوت القرآن الكريم لمُآنسته من وحشة سواد الليل الحالك ، ولكن الأشرطة أغلبها متناثرة على مقعد الراكب الأيمن فمدّ يده باتجاه المقعد يبحث عن الشريط دون أن يضيء ( لمبة ) السقف ، فوقعت يده على رأس كائن حي في المقعد الأيمن فسحب يده بلمحة برق ، فتأكد يقيناً بصحة ما يتحدث عنه الناس وأن هذا واحداً من قوم الجن .

فأصيب بذعر على ما فيه من ذعر ، وزاد قلقه قلقاً ، فحكمته قناعة تامة أنه بطل وضحية في آن واحد ، أجهد دماغه بالتفكير بمخرج آمن من تلك الورطة الجسيمة ، فأخذت تتضارب الأفكار وتتصادم سراعاً فصعب عليه تمييز ما هو أنسب ، وأيهما يأخذ به ، فأصبح على مفترق طرق متعددة كلها تؤدي للهلاك سوى طريق واحد ، ولكن كيف يتوصل إليه ..؟!!

أتته فكرة أن يقوم بضرب رفيقه ( الأقشر ) وإما أن يقضي عليه أو يلوذ بالفرار ويرتاح منه ، ولكنه تذكر أنه لم يسمع يوماً ما أن جنياً صرعه كائن من سلالة آدم عليه السلام فحذف تلك الفكرة من دماغه ، أراد أن يضيء ( لمبة ) السقف ويتفقد ( جنيّه ) ويتفحصه ، وهل باستطاعته أن يقضي عليه فيما لو قام بالعراك معه لكنه تذكر الأقوال التي يتداولها الناس في المجالس قديماً أن قدميه شبيهة بقوائم الحمار ، أو عجوز ، وأن شكله قبيح مرعب في وضح النهار ؛ فكيف في أواخر ليل بهيم في صحراء موحشة ؟!!.. انهارت معنوياته، ولم يستطع أن يمد يده لإضاءة ( لمبة ) السقف .

حاول جاهداً أن يربط جأشه ، ويشد من أزره ، فتعوذ من الشيطان الرجيم ، وبدأ يقرأ ما تيسر له من القرآن الكريم ، ومما أسعفته ذاكرته من الأدعية المأثورة ولكن سيد الموقف الارتباك فقد ( حاس ) الآيات مع الأدعية ، آية يؤخرها ، وآية أخرى يقدمها ، وآية يضيف لها دعاء ، ودعاء يضيف له آية – اختلط الحابل بالنابل – أخذ يتساءل بينه وبين نفسه ماذا يريد مني هذا ( الأقشر ) ، وما هي دوافع ركوبه معي ، ومتى تنتهي الرفقة ( القشرا)..؟!

حسم الأمر من غير إرادة ، وبلا تخطيط فقام بتسديد ( لكمة ) مستخدماً كل طاقته العضلية باتجاه رفيقه ( الأقشر ) فأصابته تلك الضربة الحاسمة وهي المفصل والتبيان لما خفي في سواد الليل البهيم ؛ فصاح ذلك الكائن صيحة مدوية فقد أوجعته الضربة؛ فانكشف الستار ، وشاهد ( جنيّه ) كما خلقه الله .

ونعرفكم الآن على رفيقه ( الأقشر ) .. إنه كلب صيد صغير، وجد قزاز بابي السيارة مفتوحاً فما كان منه إلا أن قفز واستقر في مقعد الراكب الأيمن عندما كانت السيارة متوقفة بالقرب من مكان الحفل .

والآن يقرئكم السلام الشاب عفنان ، ويقدم لكم نصيحة عبر صدى الالكترونية أن لا تتركوا قزاز أبواب سياراتكم مفتوحة عند زيارة أو حضور مناسبة ما لأقاربكم في البراري ، أو في حال توقفكم لأمر ما في الصحراء الموحشة.

تنويه : اسم بطل القصة مستعار .