هناك مثل شعبي جميل وراسخ وهو “السيرة أطول من العمر”، ومعناه واضح، فمهما طال بنا العمر كلنا راحلون، ويتبقى أثر ما فعلناه. إذا كان طيبًا ستذكر سيرتك بشكل حسن، وإذا كان سيئًا ستذكر سيرتك بالسوء.

هُناك أناس يطبعون في الذاكرة كبصمة عصية على المحو، ومهما مرت من الأيام والسنون على مغادرتهم الأمكنة التي تعودنا أن نجدهم بها، إلا أن ذكرياتهم الاستثنائية والنادرة تبقى تعطر المكان كرائحة عطر لا زالت عابقة بالأركان وزوايا.
الأستاذة عزيزة الغامدي، ليس مجرد اسم عابر عبر بطرقات الحياة، بل هي من الشخصيات التي قل ما تجدها بزمننا هذا. عرفتها عن قرب، إنسانة طيبة جميلة الخلق وحلوة المعشر، ما التقى بها شخص إلا وأحبها، تركت لها في قلوب الجميع محبة لا تشترى بمال. بلا شك جميعنا ببداية انخراطنا في أي عمل قد لا نعرف طبع المدير الذي نعمل تحت ادارته، ولكن مع الاستمرار في العمل ستتعرف على مديرك عن قرب، وسوف تلمس بنفسك وتكتشف أسلوب المدير وتعامله، وهنا تبدأ بالتعرف على مديرك جيدًا، وإلى أي نوعية من المدراء ينتمي. ببداية الأمر عرفتها وكيلة، وكانت شخصية قمة في رقي التعامل، ولكن بعد أن أصبحت مديرة، كان رقيها متوهجًا لدرجة أنه يبهرك، وأقول ذلك بدون مبالغة. عملت تحت إدارتها عرفتها أكثر وعن كثب، وجدتها تتمتع بعقلية إيجابية وصادقة مع من حولها، تمتلك مهارة قيادية فاعلة. كانت أكثر لطفاً وأشد دماثة في التعامل الإنساني مع جميع الموظفات والعاملات على حد سواء. دائما ما كانت تحرص على أن تصبح بيئة العمل جاذبة.

كم سعدنا بها حينما تسلمت زمام القيادة وأصبحت قائدة لنا، ولكن تلك الفرحة لم تدم طويلا حيث فاجأتنا بقرار صادم، وهو أنها أقدمت على التقاعد كانت الصدمة كبيرة فلم نكن نرغب بان تتركنا هكذا سريعًا، ولكن لا سلطة لنا على قرارها الذي اتخذته باقتناع تام. وبالفعل غادرتنا سريعًا، اختارت الابتعاد عن العمل الوظيفي، فما كان منا إلا أن نحترم رغبتها تلك. غادرت المكان ولكنها لم تغادر الذاكرة، فقد ظل اسمها محفورًا بذاكرة كل من التقى بها.

بعد مغادرتها لم ينقطع التواصل معها بل ظل حتى الآن. قبل عدة أيام أرسلت لها رسالة أطرح بها تساؤلَا لا زال يشغل ذهني على الرغم من مرور عدة سنوات من مغادرتها، كنت أتساءل وكان لدي ذلك الفضول لمعرفة لماذا تركت المنصب وغادرت وهي في أوج عطائها. فأجابتني على تساؤلي مشكورة وبنفس رحابة الصدر التي عهدتها منها، قالت لي: “إن في ميدان الإدارة بشكل عام تقابلين شخصيات كثر، لدرجة أنك تتعجبين من البعض من الذين لا يملكون سوى الكلمات المنمقة والمظاهر الخادعة، دون إدراك لمهام كثيرة في الإدارة والعمل.”

أخبرتني بمدى حبها للعمل باقتناع تام، وأضافت: “لم أحب يومًا أن أعمل عملًا دون اقتناعي به، ولكن في أحيان تضطر لعمل ذلك بناء على متطلبات العمل والمستجدات التي تجبرك على ذلك.”

استطردت حديثها بقولها إن أهم أمر جعلها تقدم على التقاعد، هو تقييم الموظفات ووضع درجات الأداء لهن، كان ذلك من أصعب الأمور لديها؛ خشيت أن تبخس حق من حقوق الموظفات.

وقالت: “العمل برمته أمانة ومسؤولية، ليس فقط المنصب، وأنني محاسبة امام الله على تلك الأمانة إذا لم تؤدَ بالشكل المطلوب. فقررت حينها أن أترك الكرسي لمن هو أهل له وللدماء المتجددة.”

واختتمت كلامها الراقي كرقي تلك الروح التي بين جنبيها، بأنه على الرغم من مرور 3 سنوات من التقاعد، لم تشعر بالندم يومًا على اتخاذها لهذا القرار. وحمدت الله وأثنت عليه. لله درك من قائدة ومعلمة. تخليتي عن منصب خوفًا من أن تظلمين أحدًا. قليل هم الذين يحملون أمانة العمل والإخلاص في أعناقهم، ويحرصون على تقديم كل ما هو رائع ومفيد ولو على حساب أنفسهم؛ وذلك فقط ابتغاءً لوجه الله تعالى بلا سمعة أو رياء.

إن المعيار الحقيقي للإنسان بشكل عام والقائد بشكل خاص هو التأثير والأثر الطيب هو ما يصنعه الإنسان في مسيرة حياته، والإرث الذي يبقى بعد مغادرته؛ فالأثر الجميل الذي يتركه خلفه يبقى في قلوب من حوله، ويعتبر من الإحسان. والتربة الخصبة في زراعة بذور السيرة الحسنة، والكلمة الطيبة تجاه الناس. تلك السيرة العطرة هي الميراث الحقيقي لكل من صنعوا خلفهم أثر، ولذلك تميزوا وظلوا على الدوام في البال راسخين ولا تشطبهم الذاكرة. لن يتبقى منا سوى ما يتبقى في زجاجة العطر الفارغة، وهي رائحة ذكرانا الطيبة، وأننا في يوم ما سنترك مناصبنا وعالمنا وتبقى اَثارنا.

وفي النهاية لا يسعني إلا أن أشكر كل من كان له أثرًا كبيرًا في حياتي، قائدتي السابقة الأستاذة صاحبة القلب الكبير عزيزة الغامدي، بكل تواضع أهديك حروف مقالي هذا. دمتِ دائمًا بخير حيث رست رحالك في الحياة.