نخوض الصعاب، ونُحرِمَ جفون أعيننا من نومة الصباح، وربما خاطرنا بأرواحنا، وربما تجاوزنا من هو أحق منا وكل ذلك من أجل مستقبل أبنائنا وبناتنا، نصرف عليهم بسخاء، ودون قيود، ونخفي عنهم عرق جبيننا حتى لا يصيبهم أذى من شقائنا في سبيل توفير لقمة عيشهم وتأمين كمالياتهم، وحاجياتهم الضرورية والغير ضرورية حتى ظن معضهم أنها من أوجب الواجبات على الوالدين، نركض يميناً ويساراً وكلنا نهذي بالجملة الشهيرة (ما أبي ينقص عيالي شيء عن الناس).

هذه طبيعة فطرية فينا كبشر فكل أمنياتنا وأهدافنا أن نرى أبنائنا وبناتنا في الطليعة، بل ومتقدمين في كل شئون الحياة الحاضرة والمستقبلية، ونسينا أو تناسينا أو ربما غفلنا عن مَن كان أكبر همهم مستقبلنا وتطلعاتنا المستقبلية عندما كنا صغاراً ألا وهم الوالِدَين، الكثير منا يلتزم بمواعيده مع أصدقائه في السفر والنزهة والاستراحات ويجعلها أولوية قصوى، الكثير منا لديه رحلات استجمام وكل ما يمليه عليه ضميره عند همه بالسفر؛ يُخبر والديه: أنا ذاهب هل تريدون شيئاً؟ بالطبع هم سيردون بلا، بل ويتضرعون إلى الله بأن يحفظه في حله وترحاله هكذا هم الوالدين يتحاشون كل ما من شأنه تعكير صفو الأبناء حتى وإن كانوا بحاجتهم.

بر الوالدين ليس كما نحب نحنُ بل كما يحبون هُم، فالأولى أن نقدّم لهم الخدمة فيما هو محبّبٌ لهم، فمراعاة العمر وثقافتهم وثقافة جيلهم تتطلب منا الغوص أكثر في حيثياتهم حتى نوفق فيما نقدّمه لهم، ونحرص على توطيد العلاقة مع أصحابهم، وإذا أردنا أن نقيم مأدبة أن ندعو أصحابهم، بر الوالدين ليست شعارات للتداول في المجالس، ولا للكتابة في الصحف أو الوسائل الإلكترونية بمختلف أنواعها، بل هي أفعال تُقام بما يمليه علينا الضمير لا بما يوافق هوانا.

تطول مدة غيابنا عنهم أحياناً خارج إرادتنا وأحايين كثيرة تساهلاً منا، وعند قدومنا لهم تغمرهم الفرحة وما هي إلا دقائق وننخرط في تصفح جوالاتنا منشغلين عنهم وتمر الدقائق بل وربما الساعات بلمحة بصر بالنسبة لنا، وأما بالنسبة لهم فهم يرونها وقتاً طويلاً وثقيلاً مملاً وهم مكممين الأفواه أمام أجساد بلا أرواح، فالأولى عندما نكون مع والدينا أن نكون معهم بحواسنا الخمس، وأن نتقرب إلى الأحاديث التي يرغبونها ونتجنّب الخوض فيما لا يحبون.

أكتب لكم وأنا أكثركم تقصيراً ولكن هذا لا يمنعني من تسطير هذه الحروف الزهيدة لعل الله ينفعني بها قبلكم ونتدارك غفوتنا وهي فرصة لمن كان والديه ما زالا على قيد الحياة أو أحدهما، ومهما أحطنا والدينا فلن نوفيهم حقهم ولكن شرف محاولة الإحسان والوفاء والكرم إن لم تكن في المرتبة الأولى مع والدينا فمع مَن يا أحبابي الكرام؟!.