كان دائمًا يستوقفني، ويبدي اندهاشه بل واعتراضه، يناقشني ومن معه من الشيبان في هذه التصرفات الغريبة – من وجهة نظره – فلست أنا من يقصده وحسب بل كل رفاقي ومن يصادفه من الصبيان والشباب، لحظة خروجه من المسجد متكئًا على عصاه مبتسمًا.

رغم كل التجاعيد التي شكلتها السنون، فقد كان دائم الحديث عن ذكرياته، وطفولته؛ التي اقتصرت على الذهاب إلى الحقل والعمل وحفظ القرآن، وسماع قصص التراث الشعبي العتيق، مقارنًا بين طفولته وأهدافه، وبين الأجيال الجديدة؛ مؤكدًا أننا جيل متحرر ومنفلت -جيل السبعينات- لا همَّ لنا غير قراءة الألغاز، والقصص القصيرة؛ التي تباع فوق الأرصفة، والذهاب إلي نادي القرية، ولعب الكرة، والشطرنج، ولبس الجنيس، والنعال الخفيفة ذات الألوان، فنحن لا نحترم العادات، والتقاليد الريفية -حسب ما يرى-، ونحفظ القرآن في المدارس لا من الكتاتيب ولا نرغب في ارتداء الثوب القروي العريق.

أخرج من هذا الحديث إلى المنزل، فأجد أبي، وأبدى له استغرابي من حوار جدي، وتكراره عشرات المرات، فيضحك ويهدئ من روعي، ولكنه يسهب في حديثه حول منتصف الثلاثينات؛ مفاخرًا أنه تعلم في كتاتيب القرية، وأنه كان يذهب للتعلم في مدرسة تبعد عشرات الكيلو مترات عن القرية، التي كانت تنير ليلها بمصابيح تضاء بالسولار، ويقرأ القرآن ويكتبه ويحفظه على ضوئها الخافت، وكيف تخرج رغم كل الصعوبات، أراد أن يرسخ في ذهني كل مرة أنه كان ضمن جيل مختلف في الأخلاق، والترابط والتمسك بالقيم والأخلاق؛ لأجد نفسي – مرة أخرى – ضحية حديث يري أنه مثال للتدين والعمق و الأخلاق – يا سادة نحن لا نختلف ولكننا مختلفين – يقين استقر في وجداني.

ولم أتمكن من إقناعهم به، لتمر بعدها طفولتي وشبابي؛ متابعًا لما حولي ومتعايشًا معه، ولكن مات جدي ولحقه أبي؛ ليغلقا كل أبواب هذا الحديث المكرر، والذي افتقدته لاحقًا، فأنا مازلت أحلم ببشاشة الرواية وصدقها، وحسن المعشر، لأجد نفسي بعد سنوات أناقش أبنائي الحديث نفسه، معترضًا علي طبيعة شباب هذا الجيل؛ الذي أدمن الجولات والألعاب متعجبًّا من البنطال الممزق والثوب الضيق وقصات الشعر الغريبة، أحآجهم مستشهدًا بذكرياتي وصوري التي باتت قديمة ، فيضحكون من شكل ملابسي وهندامي القديم، وينظرون لكتبي وقصصي على أنها جزء من التراث مكانه المتحف ، فهذه رتابة وكلاسيكية مقيتة، عندها تذكرت أحاديثي لجدي وأبي ، ولكن الفارق أن تلك التغيرات لم تمثل لي صدمة .

لأنني أعي (السوسيولوجيا) ذلك العلم الذي يدرس المجتمعات قوانينها ، ويؤكد تطورها وتغيرها في دورات زمنية متلاحقة منذ القدم، وأثرهذه التغيرات والتطورات على المجتمعات ، وتنبئ بالاختلافات المجتمعية بين الأجيال في ظاهرة صحية للغاية ، فعندما نظر جدي وأبي للأجيال التالية لم يدركا أننا لا نختلف بل عاداتنا تنمو وتتطور، وهذه سنة الله في الكون، فلا يجب أن نظل طول الوقت نبكي أجيالا مضت، وعادات اندثرت ونقارن الأبناء ونناقشهم ونرهقهم ونرغمهم على الإبقاء في أفكارنا القديمة التي كانت في وقت ما، هي الحداثة، ما علينا التمسك به وترسيخه في كيان الأبناء قيمنا الإسلامية التي يجب أن تظل بعيدة عن تلك (السوسيولوجيا).

نختلف ونتطور، وتنمو عادات، وتحل أخرى، ولكن علينا الإبقاء على هويتنا العربية والإسلامية، والبحث فيهما، فهما: نبراس الحياة ومنهج حارت في تدبره عقول العلماء والفلاسفة، أيها الآباء والأجداد لا تطيلوا النظر في تصرفات الأبناء، وعاداتهم وتقاليدهم، نتغافل ما لم تخرج عن الدين، ندفعهم دفعًا للتطور والبحث مع الإبقاء على تقاليد الأسرة والمجتمع قدر ما تتوافق مع التطورات من حولنا ، فهي معادلة إن تحققت نجونا بهم من تحديات عاصفة ، وهذه مسؤولياتنا جميعًا ، ندعم ونرصد ونقيم ونوجه لا قهرًا ولا إجبارًا،،، تحياتي لهذا الأجيال الراقية والجميلة.