تحدث الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز كثيراً عن مرحلة إفتراضية من عمر الجنس البشري, أطلق عليها تسمية الحالة الطبيعية (natural state) وكان يقصد بها الطبيعة البشرية للإنسان كأنسان, والإستعدادات الطبيعية المكنونة في أعماقه بغض النظر عن المستوى الحضاري والإجتماعي.

ففي هذه المرحلة الإفتراضية السابقة لبناء التجمعات البشرية تكون الإنسانية جمعاء في حالة نزاع وعراك وعداء, ومثل هذه الظروف الصاخبة تحول دون صناعة أو تجارة أو زراعة كما تحول دون العلم والأدب والرفاهية وبالتالي تنتفي الحياة في المجتمع, فالكل يحيا في حالة خوف وجزع مستمر.

إن الإنسان في مذهب هوبز, يبدو أنانياً بفطرته أو طبيعته, ويفضل مصلحته على كل إعتبار ويميل نحو الإعتداء على الأخرين فالإنسان ذئب لأخيه الإنسان وهذه الذئب الضاري الكامن في دواخل الإنسان سيظل متخفياً حتى يجد الظروف السانحة لتحرره, كما يعتقد هوبز.

يقول هوبز في وصف السلوك الإنساني على طبيعته: (ألا يحدث عندما يقوم الإنسان برحلة أن يسلح نفسه, ويكون دقيقاً فيمن يصاحبونه الطريق, وعندما يذهب للنوم ألا يغلق أبوابه بالأقفال؟ وإذا ما إستقر في منزله يغلق خزائنه, وهو يفعل ذلك مع علمه بأن هناك قوانين تحميه وحراساً عموميين مزودين بالسلاح مهمتهم ردع من يريد أن يلحق به الأذى, فما هي الفكرة التي كونها في ذهنه عن أقرانه المواطنين عندما أغلق أبوابه؟ ألا يتهم هو البشرية بأفعاله تلك مثلما فعلت أنا بكلماتي؟).

تلك هي الحال التي يسميها هوبز “بحالة الطبيعة” التي يتحول فيها كل إنسان لذئب بالنسبة لغيره من البشر, وعيونه لا تفارق مراقبة الأخرين, وقلبه مليئاً بالخوف والريبة والشك وكأنه ذئب يعيش في جماعة من الذئاب, وهي دليل واضح وصريح على نزعته الفردية النفعية وأخلاقه التي تتسم بالأنانية.

في رواية “العمى” للأديب البرتغالي جوزيه ساراماغو, أهم أعماله الروائية على الإطلاق, وتحكي قصة مدينة يجتاحها وباء غامض ومعدي يصيب سكانها بالعمى, في عمل أدبي متحرر من المحلية حيث لم تحمل المدينة والشخصيات والشوارع أي أسماء, وكأنه يريد أن يقول أنها رواية صالحة لكل زمان ومكان, وقد شملت بين ثناياها رمزية الصراع بين الخير والشر وفلسفة الحياة عند البشر عندما تتغير ظروف حياتهم الراهنة.

طبق ساراماغو في روايته “العمى” نظريات هوبز المتعلقة “بحالة الطبيعة” وعودة الإنسان نحو الهمجية والبدائية في حال تغير شرط وحيد من شروط وجوده, فأحداث الرواية جرت في مدينة حديثة في عصر متقدم يشمل كل مظاهر التقدم من شبكة مواصلات وإتصالات ودوائر حكومية ووسائل إعلام وكل ما يعتمد عليه الإنسان في المجتمع الحديث, فكان فقدان البصر بين سكان المدينة سبباً كافياً للإنهيار الكامل في البنى التحتية للمجتمع.

إنقسمت الرواية لمرحلتين: مرحلة أولى لإجتياح وباء العمى, أدت لإعتقال الضحايا ووضعهم في حجر صحي, ومرحلة ثانية خرج فيها الوباء عن السيطرة وإنتشر بين كل سكان المدينة, بإستثناء زوجة الطبيب الوحيدة التي نجت من الإصابة بهذا الوباء الغامض.

لم يناقش ساراماغو أسباب الإصابة بالوباء أو ماهية الوباء أو كيفية مواجهته, ولماذا زوجة الطبيب بالذات لم تتأثر بالوباء وظلت مبصرة وشاهدة على كل ما حدث في أجنحة الحجر الصحي والمدينة المزدحمة بالعميان, بل كان ساراماغو يريد أن يبين لنا سلوك الإنسان أثناء الإصابة بالعمى.

أراد أن يرينا الخيط الرفيع الذي يفصل بين المجتمع الحديث والمجتمع البدائي, وعندما ينحل هذا الخيط سينحل المجتمع بالكامل, وينقلب فيه الناس لوحوش همجية تقودها غريزة البقاء لا غير, ويكشف لنا زيف حضارتنا ومبادئنا, ومن المضحك والمثير للسخرية أن زيف هذه الحضارة لا نراه إلا عندما نصبح عمياناً.

كانت زوجة الطبيب المبصرة الوحيدة في الرواية وهي عين الراوي تسرد لنا ما يدور, شاهدة العيان لأحداث البؤس داخل مبنى الحجر الصحي, كانت تتألم وهي تشاهد المعتقلين وهم يتخبطون في وحشيتهم وأكلهم وشربهم وفضلاتهم, ويتقاتلون على الطعام الذي يرميه بلا مبالاة حراس المعتقل.

تجربة مخيفة عندما تشعر أنك محاط بعميان البصيرة الغارقون في قذارة عقولهم وضحالة أفكارهم, فلا أحد يرى ولا أحد يحاسب وكأن ما يمنع من إرتكاب الجريمة هو الخوف من العقاب ليس إلا.

خرج الوباء عن السيطرة وإجتاح سكان المدينة بالكامل, تعطلت كل مظاهر الحياة, إنقلبت الشوارع إلى مقابر جماعية, والجثث المتفسخة مرمية في كل مكان, ومخازن الأطعمة مشاعة للجميع, والبيوت يسكنها أشخاص غرباء لا يملكونها, إنكشفت حضارة الإنسان الهشة والمزيفة في مدينة يسعى كل من فيها نحو مصلحته بمنتهى الأنانية, ويتبين لنا القدر الكبير من الهمجية والحيوانية وروح العداء الكامنة في أعماق الإنسان والتي تظهر في حال إختلت ظروف الحياة.

لقد وضعنا ساراماغو أمام حقيقتنا نحن البشر. حين جردنا من خوفنا من الناس ليجعلنا في مقابل ضمائرنا, وأخلاقنا الهشة التي تنهار أمام الرغبة في البقاء, وأعطانا نتيجة نهائية مفادها أن العلاقات الشخصية بين الناس مهما بدت متينة ومستقرة فهي في الواقع هشة وضعيفة وسريعة الإنهيار.

ميزة هذه الرواية هي أنها تريك دواخلك وتعري مخاوفك البدائية بسخرية مؤلمة وممتعة في آن, برهنت على عبقرية ساراماغو الفذة والذي إستطاع بقدرته الهائلة على السرد أن يطوع حبكة الرواية وأحداثها ويجعلك تعيش العمى واقعاً وكأنك تسبح بداخله.

قدم ساراماغو روايته برؤية تشاؤمية للطبيعة البشرية وصور لنا الجانب المظلم والمخيف من الطبيعة البشرية بين مؤثرات بوهيمية وأجواء كابوسية حملت تساؤلاً عريضاً: ماذا لو إجتاحنا العمى فجأة ولم يستطع أي منا الرؤية بعينيه؟