الإنسان هو الأكثر تعقيداً في نزعاته ورغباته وأمانيه وطموحاته ، ولذلك تنشأ الصعوبات التي يواجهها من هذا التعقيد ، فهو ليس اجتماعيا منقاد للمجتمع تماماً مثل النمل والنحل ، ولا انفرادي تماما مثل الوحوش الضارية ولكنه شبه اجتماعي ، يعيش في جماعة مؤلفة من جماعات وله الفردية الكاملة. ويعيش بتذبذب بين الجانب الشخصي والجانب الاجتماعي ولذلك كان لابد له من شرائع وأخلاق ، لأن القواعد الأخلاقية هي التي تملي علينا التصرفات.

والجانب الانفرادي الفردي في الانسان في أحيان كثيرة يميل إلى التطرف والتشدد والتعصب عندما يمتلأ غروراً بفرديته ومفهومه وعلمه ومعرفته ، ويعتبر ما يتعصب له فوق كل اعتبار آخر ، ويأتي الصدام من وجود آخرين متعصبين لما هو عكسه أو هو أشد حجة من حجته .. وكلهم يظن أن ما يفعله ويقوله مفيد للغير لأن الصفة الاجتماعية الكامنة فيه تخرج ليكسو المجتمع بفكرته ، وإذا تكونت منهم جماعة وأحسوا أنهم أصحاب رسالة وأحسوا أنهم يحققون شيئا من هذه الرسالة ، لا يفكرون في بقية الجنس البشري بل يتابعون في نشر رسالتهم ، وإذا رفض المجتمع فكرتهم وتعصبهم لها بدت العداوة والخصومة ودخلنا في صراع ونزاع مقيت وربما حروب مدمرة .. وكل ذلك جاء من اختلال مفهوم الأخلاق والعيش المشترك.

من هنا ندرك الحاجة إلى الأخلاق في الشئون البشرية ، ولابد لنا إذن من أن نعترف بوجود عنصرين متميزين في الجنس البشري ، أحدهما اجتماعي والآخر انفرادي ، فأي نظام أخلاقي يدخل في اعتباره أحدهما دون الآخر يكون ناقص غير مرضي وغير مرغوب.

وهذا ما حدث في الشيوعية من قتلها للفردية ففشلت ، وللنازية من قتلها للمجموع في سبيل الفرد والجنس فضاعت وكلاهما كان متعصب متشدد متطرف.

ويقودنا ذلك إلى سؤال مهم: لماذا هذه الاختلافات وتعدد أنواع الشباب ومصدر وعينا جميعا تراثي وديني بحت ، صادر من عقائد كتابية سمحة كلها محبة وسلام وتقاليد واصول عظيمة ، ونتوجه لإله واحد ومباديء عامة واحدة ، وهذا المصدر هو الذي يمدنا بالعقيدة والقيم المنظمة للنمو والسلوك؟

هل هو فقط الزوغان من هذه المبادئ والأصول أم هناك أسباب أخرى؟ نعم .. هناك أسباب أخرى فإن كان الاستعمار كفلسفة ومذهب قد تم تصفيته في القرن الماضي إلا أنه ترك بذرة متمثلة في التعليم والمناهج ينفذ منها كما شاء لما يشاء ، لأنه يخترق أنفس الصغار حتى يصيروا شباباً ، واحتفظت دوله بالسبق في كل شيء مثل التقدم العلمي والتعليمي والتكنولجي والتقدم في مجال الصحة.

ومن هذان المجالان بمؤسساتهما الكبرى المتطورة تطور مذهل يتم بث الفلسفة المذهبية الجديدة بطرق ووسائل مختلفة لغاية واحدة وهي التفريق بين أبناء هذه الأمة ومن وقت لآخر يظهر من أبنائها من يتعصب لما يراه متقدماً متطوراً مزدهراً والعكس. والسؤال الآخر وهو بقدر أهمية الأول: ماذا حَصَّل الشباب من الحياة القائمة؟ هذا سؤال يخاف الكتاب النزيهون من تبعاته!! حيث يرون التفاوت الرهيب في أحوال المعيشة ببلادنا ، وعدم وضوح حدود العيش الكريم ، والامتيازات والاستثناءات الناشئة عن هذا التفاوت تقف كحاجز وسد منيع أمام طموحات وأحلام وآمال الشباب!!

ونعود لنفهم مبادئنا ، مباديء هذا الدين القيم العامة فهم صحيح ودقيق فيه فقه وروح العصر الحديث مع هذه الكثرة الكثيرة المتكاثرة من السكان .. ونفهم احتياجاتها بالعدل الذي يريده الله ..

حيث يجب أن تسود وتعلوا شريعته ومبادئه ، وألا تسمح السلطات لفئة واحدة أو متنوعة توسعت وتوحشت ووصللت إلى حد تملك حقوق الأجيال القادمة في الثروة والتحكم فيها دون فائدة ولا منفعة إلا الوراثة والتوريث ، وهذه الثروة هي ثروة الدولة من الأراضي والمنافع من كنوزها المخبوءة تحت الأرض ومناصبها ووظائفها ، ثم الشمس والهواء والبحار وشواطيء البحار وضفاف الأنهار.

إن مباديء الدين القيم تنكر احتكار الثروة وتحرم الربح بغير عمل وتقر من ثروة الأمة كلها حصة للتنمية والتطور وحصة للعجزة والمحرومين.

فهل انتبهنا إلى لعبة “المسافات” .. لا إنه فيما يبدوا لنا توسعت وتوحشت لتصل إلى تملك حق الأجيال القادمة في الثروة الحقيقية لفئة وفئات صفوة منتقاه ، ثروة الدولة من أراضي والمنافع والكنوز تحت الأراضي والمناصب والوظائف محجوزة ثم تطورت إلى الشمس والهوا والبحار والأنهار وشواطئها.

وهذه ليست اشتراكية ، ولكن هذه مبادئ الدين الحنيف القيم واحدى مباديء علم الاقتصاد الاجتماعي الحديث.

ونكتفي بهذا القدر عن الشباب الغاضب ونكمل الحديث عن نوع آخر إن شاء الله تعالى في المقالة القادمة لكشف نبع الطوفان ببلادنا “وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ”.