قد يظن البعض أن المقصود بالإدارة الترسلية هنا هي الإدارة السائبة أو المتساهلة، فهذا هو المرادف المباشر لمفهوم الترسلية، ولكن قناعتي تجاه هذا المصطلح في الإدارة التربوية والتي عايشتها- بنمط واقعي مع إدارت متباينة لها أيدولوجيات معقدة- معايشة أثمرت رؤي مختلفة عن الأدبيات التربوية تجاه الأنماط الإدارية جعلتني أرى أن الإدارة المتسلطة أوالبيروقراطية في المؤسسات التربوية هي إدارة ترسلية فوضوية نتاج فقر في الإمكانات والخبرات،

فهناك علاقة طردية بين الافتقار والترسلية المتسلطة، فلا فروقات أصيلة بين النمطين في منتجهما النهائي، فكلاهما ينتج عشوائية في صنع وإدارة القرار، ويجعل بيئة العمل بيئة طاردة ممتلئة بالمشتتات، فالمدير الذي يعتمد في إداراته على الترسلية البيروقراطية يؤدي أدوارًا شكلية فقط ترضي بارانوياته وتسلطه، فهو طوال الوقت يعاقب الإبداع ويركض وراء التميز إرضاء لضعفه وتسلطه، فقراراته غالبًا ما تدور بين التسلط والتخبط، فهو يدير مؤسسته من دون فكر تربوي أو وعي قيادي، مواقفه كلها مزاجية، لا يؤمن بتوظيف المعرفة ، ولا يهتم إلا بالأمور السطحية وأرشفة التعاميم التي تؤكد فكره الفوضوي، كل فلسفته الإدارية تكمن في تنفيذ وجهة نظره بغض النظر عن جوهر العمل وتطويره ، ففكره موجه نحو إبقاء الجميع من طلاب ومعلمين تحت ضغوطه.

فالنمو الأكاديمي للطلاب وتطوير قدراتهم ومستوياتهم المعرفية وصحتهم النفسية لا تمثل أدني اهتمام بالنسبة له، وأحيانًا يتخذ أفكارًا تطويرية كجسور لممارسة تسلطه على المعلمين والطلاب، يضيع وقته في نظم ومراجعة التعاميم واللوائح التي تضمن هيمنته على المحيطين به؛ لتظل هذه الكوادر في حالة دائمة من عدم الاتزان المهني والصدام بين أفكارهم التطويرية والجُدر الترسلية الفقيرة في إمكاناتها الإدارية، وتبقى هذه النخبة من المعلمين في تخبط دائم لا يثمر إلا ضحالة في الإنتاج التربوي؛ ولعل هذا المدير لا يدرك أن الإبداع لا ينمو في بيئات عمل فاسدة تعتمد إدارتها على قناعات شخصية أوسمعية ، فالإبداع يحلق بلا قيود ويعود محملًا بالمستجدات التي تدعم تنافسية المكان وريادته.

وفي العادة تعكس أنماط الإدارة ظلالها على العاملين في بيئة العمل لتأخذها إلى حلقة فارغة من المشكلات الإدارية التي تبعدهم عن تحقيق أدوارهم المنوطين بها تجاه تطوير وتجويد التعليم والتعلم، وما لم يدرك الجميع داخل المؤسسة التربوية خطورة هذه الأنماط وأثرها على مخرجات التعليم فلن تجدي بحال أي جهود نحو التطوير.

لذا كان علي المؤسسات التي تستهدف تطوير بيئات العمل داخلها اتخاذ كثير من الإجراءات لإعادة بناء بيئات العمل التي أفسدتها الأنماط الإدارية المشار إليها من خلال عدة خطوات منها: إعادة تأهيل الكوادر الإدارية ودمجها ضمن برامج نوعية متميزة طويلة الأمد تسهم في تطوير مهاراتها الإدارية والتربوية وتعتمد أساليب التكنولوجيا في التقديم والتدريب، وتعيد تكوينها المهني بصورة سوية وتساعدها في التخلي عن سياستها الإدارية بشقيها البيروقراطي والفوضوي، وعلى المؤسسات التربوية كذلك اعتماد الإدارة بالأهداف كنمط استراتيجي داخل بيئات العمل لأن عدم التخطيط للنجاح هو بمثابة تخطيط للفشل.

فالمؤسسات التربوية هي مؤسسات مرنة شديدة الحساسية تجاه التطورات المتلاحقة في مختلف الفنون والعلوم ، فلا يمكن قبول إدارات تدير مؤسسات تصنع الحاضر والمستقبل بعقلية الماضي وليس لها علاقات بالعوالم الرقمية والتكنولوجية، كذلك ينبغي أن تعتمد الإدارة التي ترغب في التطوير أسلوب الإدارة بالأهداف والتخطيط بمنهجية لإنجاز أعمالها بمنطق الإدارة وليس بمنطق تسيير الأعمال .

كما أن اعتماد الأسلوب العلمي في الإدارة وفق تصميم إداري هرمي متسلسل داخل المؤسسات يضمن تطوير بيئات العمل وعدم تفرد شخص بالقرار الإداري داخل المؤسسة، ويضفي مزيدًا من الترابط بين استصدار القرار وتطبيقه لصالح العمل والمؤسسة، فمن الملاحظ أن المدارس والمؤسسات التي تدار بعقلية الفرد ليست سوى بوق لفكر نمطي متكرر.

كذلك يجب وضع معايير دقيقة للترشح لإدارة المؤسسات التربوية لضمان جودة بيئة العمل أهمها الكفاءات العلمية والإلمام بالمفاهيم والنظريات الإدارية والتربوية، والتخلي عن فكر الخبرة المقدرة بالأعوام رغم أهميتها إلا أنها آلية سطحية، فالخبرة المكتسبة بالمؤهلات والدراسات النظرية تختصر السنوات الطويلة خاصة إذا امتزجت بالخبرات الميدانية، فالمؤسسات التربوية العريقة والمنصفة عالميا مثل :معهد ماساتشوستس للتقنية، وجامعة استانفورد، وجامعة هارفارد ، والمعهد السويسري الفيدرالي للتقنية، وإمبريال كوليج لندن وغيرها من المؤسسات العالمية والتي خرجت روادًا وأدباء وساسة وعظماء حققوا نوبل يديرها باحثون لديهم خبرات أكاديمية نظرية عريقة، وليس سنوات مكررة دون وعي أو تطوير.

كما أننا لا ينبغي أن نهمل التواصل البناء في بيئات العمل والذي يعد من العوامل المؤثرة في تطوير المؤسسات، فحين يفقد فريق العمل التواصل المثمر تتعطل فرص التطوير، والمدير الذي لا يجيد الحوار وفنون الاتصال لا يحسن الإدارة بصورة تضمن له الكفاءة المتوقعة من العاملين، والتواصل يبدأ من الحوار الودود مع المعلمين والعاملين داخل المؤسسة، وينتهي بكشف الأهداف والطموحات التي تستهدفها المدارس فبدون مهارات التواصل تنقطع جسور العلاقات المهنية السليمة بيئات العمل التربوي بيئات ممتلئة بالطموحات ووجود أفراد مؤهلين يضمن لها النجاح الذي ينعكس على كافة مؤسسات المجتمع، وعلينا جميعا أن نسعي لهذا داخل مجتمعاتنا العربية العريقة .