الحديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام له حلاوة لا يدركها ولا يتذوقها إلا من عرف سيرته حقيقة المعرفة ، واستنار بهديه ، واقتدى بسنته وسيرته ، وتمثل أخلاقه في جميع حياته.
كل القــلوب إلى الحبيب تميل * ومعي بذلك شاهد ودلــيل
أمّا الدلـــيل إذا ذكرت محمداً* صارت دموع العاشقين تسيل
يا سيد الكونين يا عــلَم الهدى*هذا المتيَّم في حمـاك نزيـل
هذا رســول الله هذا المصطفى* هذا لرب العالمين رســولُ
صلى عليك اللهُ يا عــلَمَ الهُدى * ما حنّ مشتاقٌ وسـار دليل
فالرسول صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين ، وتجلت رحمته في الدنيا كلها ، ولم تكن رحمته قاصرة على البشر فقط أو مع صحابته وأهل بيته رضي الله عنهم أجمعين، وإنما رحمته عامة وشاملة لكل شيء للمسلمين ولغير المسلمين ، للإنس والجن ، والكبير والصغير ، والرجل والمرأة ، والشاب والطفل ، والشجر والحجر ، وللحيوانات والعجماوات ، وتظهر أشد وأوضح ما تظهر مع الكفار، ففي صحيح مسلم قال الصحابة رضي الله عنهم للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله؛ ادع الله على المشركين! فقال: “إني لم أُبْعَثْ لَعَّانًا، إنما بُعِثْتُ رَحْمَةً مُهْدَاةً”.
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم موقفه من أهل الطائف وقد أَدْمَوْا قَدَمَيْه عليه الصلاة والسلام، وجاءه جبريل مَلَك الجبال، عليه السلام، يقول مَلَك الجبال للرحمة المهداة: إن شئتَ أن أُطْبِقَ عليهم الأَخَشَبَيْنِ -جبلين يُحيطان بالطائف- لفعلتُ، فيُجيب -بلسان الرحمة- وتمني الخير لذريتهم إن لم يكن من عذبوه وآذَوْهُ أهلًا لهذا الخير “بل أرجو الله أن يُخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يُشْرِكُ به شيئًا”.
وما قصة الأعرابي الذي بال في المسجد النبويّ عنّا ببعيد؛ فقد رأيناه صلى الله عليه وسلم بعد التربية التطبيقية والعملية لأصحابه قال لهم: (إنما بُعثتم ميسرين).
ورد في صحيح البخاري رحمه الله: “أن أعرابيًّا بال في المسجد، فقام إليه بعض القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: فلما فرغ دعا بدلو من ماء، فصبه عليه. وفي صحيح مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: “إن هذه المساجد لا تَصْلُحُ لشيءٍ من هذا البول ولا القَذَرِ، إنما هي لذكر الله -عز وجل- والصلاة، وقراءة القرآن”.
وفي مسند أحمد مختصرًا: “أن شابًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه! فقال: “ادْنُ”، فدنا منه قريباً، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: “أتحبه لأمك؟”.
قال: لا والله ، جعلني الله فداءك. قال: “ولا الناس يحبونه لأمهاتهم” ، قال: “أفتحبه لابنتك، لأختك، لعمتك، لخالتك؟” ، قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم، ولأخواتهم، ولعماتهم، ولخالاتهم»، فوضع يده عليه، وقال: “اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه»، فلم يكن بَعْدُ -ذلك الفتى- يلتفت إلى شيء”.
فإنَّ الرحمة بالعاصي والمخطئ لتأخذ بيده إلى الله، وترشده إلى الصراط المستقيم؛ وهي سبيل لكسب القلب وهداية النفس، وسكينة الفؤاد بالحق.
أما رحمته بطلابه فتتجلى في قول ابن عباس رضي الله عنهما -كما أورد البخاري في كتاب العلم-: “ضَمَّنِي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: “اللهم علمه الكتاب”.
وكُتُبَ السِّيَر قد امتلأت بوصاياه لقادته وجنده في المعارك والغزوات تحثهم على عدم قتل الأطفال والنساء وكبار السنّ ولا قطع شجرة ولا التمثيل بالجثث، ويقول: (لا تغلُّوا، لا تغدروا، لا تمثّلوا).
وكان يهدي جاره اليهودي من الذبيحة التي يذبحها في بيته، ويقول: (هل أهديتم لجارنا اليهودي؟!).
وكان في موقف أُحُد، وغيره يدعو: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).
ويدعو لقبيلة دوس -ينتسب إليها الصحابيان الطفيل بن عمرو، وأبو هريرة رضي الله عنهم- ويقول في الدعاء: (اللهم اهْد دوْسًا وأت بهم مسلمين).
حقّ لكل مسلم ومسلمة أن يفاخروا الدنيا بانتسابهم لهذا الرسول الرؤوف الرحيم، حُقّ لكل مسلم ومسلمة أن يتنفّس البشرى والأمل بنعمة الانتماء لدين محمد بن عبدالله، حُقّ لكل مسلم ومسلمة أن يرفعوا رؤوسهم عالية بأخلاقه عليه الصلاة والسلام التي أصبحت مثلاً أعلى في الرحمة والإحسان.
فهلمّوا إليه من جديد ، جدّدوا العهد والصلة به وبسنته ، وتعايشوا بالرحمة واتخذوها منهجًا مع أبنائكم وآبائكم ونساءكم ورجالكم ، فتّشوا في أعماق السيرة وستجدون اللآلئ المكنونة ، وتذكروا ما قاله وأوصى به عليه الصلاة والسلام: (الرَّاحِمونَ يرحَمُهم الرَّحمنُ تبارَك وتعالى؛ ارحَموا مَن في الأرضِ يرحَمْكم مَن في السَّماءِ).