مثل غيري لا أتذكر كيف خلقني الله هكذا هي حكمته عزّ شأنه، ولا عن كيفية شروع الحياة في جسمي في مدة لا تتجاوز أشهر محدودة، ولا عن تفاصيل خروجي على هذه الدنيا ولكني متأكد أنني بدأت بالصراخ للوهلة الأولى من أبصاري للنور، كان همي الأول هو الرضاع، وأول مكروه أزعجني هو الفطام، كانت ملامحي رخوة مثل غيري من المواليد فقد أشغلت والديّ- حفظهم الله – وذويهم مَنْ أشبِه؟ّ! مرةً يقولون مثل جدي – رحمه الله – وتارة يقولون مثل خالي عبدالله – رحمه الله – وتارةً أخرى لا ذاك ولا ذاك، أشغلتهم وادخلتهم في جدال لم أعلم نهايته ولا بماذا انتهى.

كوني طفل مهاد أمتلك الحواس من نظر وسمع وتذوق وشم إلا أنني فاقد للوعي والإدراك فلم أتذكر شيء من تفاصيل الحياة، أول إدراكي للحياة كان والديّ مع ذويهم رُحّل في بقاع نجد، يرحلون ويستقرّون وفق ما تقتضيه مصلحة مواشيهم، وكلما عدت إلى الماضي وغصت فيه أكثر أدخُلَ في عالم غامض مثل من أفاق من حلم ونسيه قبل أن يفيق، لا أتذكر إلا تفاصيل متقطعة بعضها أشبه بالحلم سواء كانت مزعجة أو مفرحة.

من بداياتي المزعجة أنني لا أغفل، أتتبع حواس من حولي، طفل صغير بمواصفات رجل يتمتع بفراسة الانتباه، والتقاط الرموز المشفرة بلمحة بصر، ما إن يريد والدي أو أيّ من أقاربي الذهاب بسيارته إلا ويجدني بداخلها أو بحوضها، أهم شيء أنني أرافقه أياً كانت الوجهة وأياً كانت المدة، كانوا لا يتحدثون عن تحركاتهم أمامي، احياناً يضطرون لاستخدام رموز متفق عليها مسبقاً ومع ذلك غالباً أكشفهم.

من براءاتي الطفولية المزعجة ذات مرة التقطت الشفرة الصادرة من والدي إلى جدي رغم بُعد المسافة بيني وبينهم تفاصيلها أنه يريد الذهاب إلى المزرعة ليسقي النخل، فانطلقت بهدوء حتى لا ألفت انتباههم رغم أني على مرأ منهم وركبت حوض السيارة فوجدت فيه بطانية فاختبأت فيها وهم يشاهدونني ويتبادلون الضحك، ظناً مني أن تلك البطانية ستكون حاجزاً بيني وبينهم، وما هي إلا لحظات وأتى والدي- متعه الله بالصحة والعافية – ورفع البطانية وأخذني بتلابيبي وحذفني على والدتي – متعها الله بالصحة والعافية – وقال:(خوذي الورع أشغلنا، ما عندنا شغله إلا هو).

بعد تأمل نجد أن لا راحة في الدنيا فعندما كنا صغاراً نزعج والدينا وبعد أن كبرنا أزعجتنا ذرارينا، وهكذا هي الأيام دول، إيجابيات وسلبيات تتبادل الأدوار فيما بينها حسب الظروف، الراحة والاستقرار الحقيقي في الجنة نسأل الله أن لا يحرمنا وإياكم منها.