جميعنا كبشر نعيش الحياة لاهثين خلف بريقها الزائف نركض هنا ونركض هناك نقف هنا ونقف هناك، نتأمل بطول الأمل وطول الأمد نعيش غير مبالين وغير واعين أن حياتنا وركضنا ولهاثنا سينتهي بلحظة ما لا نتوقعها، سينتهي كل ذلك الركض بلحظة لم نكن نحسب حسابها. نلتقي في الأماكن بالكثيرين ولكن بلحظة قد لا نجدهم، وكأن تلك الأماكن وجدت لتكون فارغة أصلا وشاغرة بهم للحظات.

أحيانا نعتاد وجودهم فيها؛ لأنها أماكن على مشارف الروح، أماكن في العمق والصميم. عندما يغادرون دنيانا فكأن فاسا يقتلع شجرة راسخة من جذورها، تؤلم، تترك أثرا وتدمي القلب.

بالأمس القريب فجعت برحيل قطعة من قلبي شقيقتي الصغرى الزهرة الندية البريئة والنقية، القلب الصافي والروح السمحة، فارقتني جسدا ولم تفارقني روحا وما زالت أرى طيفها يعبر أمام ناظري بكل لحظاتي. رحلت دون وداع رحلت بصمت وهدوء كما كانت دائما.

رأيتها مسجاة دون حراك هناك في حجرة غسيل الموتى، وقفت أتأمل الهدوء والسكون الذي كانت فيه، نظرت إلى وجهها البريء للحظات. مددت يدي وأمسكت يديها التي كانت كقالب ثلج من شدة برودتها ووضعتها على قلبي الذي كاد يخرج من مكانه، وكأنني أريد أن أسمعها خفقات قلبي الذي يئن ويبكي فراقها، قبلت يدها وجبينها بعبرات لا تريد أن تقف، شعرت أن روحي تنزع من جسدي انه لأمر جلل أن ترى أحب الأشخاص لك وقد غادر الحياة دون عودة، شعور لا يشبهه أي شعور ولا يمكن وصفه أو شرحه.

الرحيل عن الدنيا وعن الأحبة وعن كل شيء ألفناه هو أمر حتمي لا محالة ولا مفر منه، ولكنه مؤلم للغاية ولذلك الرحيل مرارة وأي مرارة.

آخر نظرة لشقيقتي وآخر لمسة ليديها الباردة وآخر قبلة على جبينها وآخر كلمات الوداع همست بها في أذنيها قبل أن تحمل على النعش ويتوجه بها إلى مكانها الأبدي.

ادراكنا للحياة بأنه مهما كان بها من لحظات فرح أو لحظات حزن لا يتغير لونها بذلك، الحياة هي الحياة سيختمها الموت مهما تغافلنا عنه فإنه لن يتغافل عنا بل سينتظرنا حتما سينتظر اللحظة التي بها أجلك.

فقط فلنتأمل ولنتدبر سندرك حينها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ” كُنْ في الدُّنيا كأنَّك غريبٌ أو كعابرِ سبيلٍ” بلا شك، الرحيل موجع ومؤلم وقاسي ويستحيل استيعابه وتقبله، ولكن عزائنا جميعا أن الراحلين لا يغيبون ولا يموتون ولا يفنون، بل أحياء في قلوبنا.