اعلم أنَّ المستشار في الأمور يجب امتحانه بالاختبار، حتى يخلص من الأوصاف التي تخل بالنصيحة.

فإذا عزم المرء على المشاورة، ارتاد لها من أهلها من قد استكملت فيه خصال، منها:

الأولى: العقل الكامل بطول التجربة مع الفطنة والذكاء. فإنه بكثرة التجارب تصح الرويّة. قيل: لأن الأحمق الجاهل إذا استشرته، زاد في لُبْسك وأدخل عليك التخليط في رأيك ولم يقم بحقيق نصحك. وكان يقال: احذر مشاورة رجلين: شابٍ مُعْجبٍ بنفسه قليل التجارب في غيره، أو كبيرٍ، قد أخذ الدهر من عقله كما أخذ من جسمه. قال عبد الله بن الحسن لابنه محمد: احذر مشاورة الجاهل وإن كان ناصحاً، كما تحذر عداوة العاقل إذا كان عدوّاً، فإنه يوشك أن يورِّطك بمشاورته فيسبق إليك مكر العاقل وتوريط الجاهل. وقيل في منثور الحكم: كل شيء يحتاج إلى العقل، والعقل يحتاج إلى التجارب. وقال بعض الحكماء: التجارب ليست لها غاية، والعاقل منها في زيادة. وقال أحدهم: مَنْ استعان بذوي العقول، فاز بدرْك المأمول.

الثانية: الدين والتقوى. فإن ذلك عماد كل صلاح وباب كل نجاح، ومَنْ غلب عليه الدين، فهو موفَّق العزيمة مأمون السريرة. عن عمر رضي الله عنه أنه قال: شاور في أمرك مَنْ يخاف الله عز وجل.

الثالثة: المحبة الحاملة على خلوص النصيحة. فإنَّ النصح والمودة يَصْدُقان الفكرة ويُمْحِضان الرأي. قيل: لأنه إذا كان كذلك أمنت من غشّه، واجتهد لك في نصحه، ونظر في أمرك بجميع أجزاء قلبه. قال بعض الحكماء: لا تشاور إلا الحازم غير الحسود واللبيب غير الحقود وإياك ومشاورة النساء، فإنَّ رأيهن إلى الأفن وعزمهن إلى الوهن. وقال بعض الأدباء: مشورة المشفق الحازم ظفر، ومشورة غير الحازم خطر.

الرابعة: سلامة الفكر من مكدرات صفوه. بأن يكون سليم الفكر من همٍّ قاطع وغمٍّ شاغل، فإن مَنْ عارضت فكره شوائب الهموم، لا يسلم له رأي ولا يستقيم له خاطر. وقد ذكروا ممَنْ عُرض له ذلك أصنافاً، فالجائع حتى يشبع، والعطشان حتى يقنع والأسير حتى يطلق، والضال حتى يجد، والراغب حتى يمنح، وصاحب الخف الضيق وحاقن البول وصاحب المرأة السليطة ومعلم الصبيان وراعي الغنم والكثير القعود مع النساء، ومَنْ لا دقيق عنده.

الخامسة: البراءة مـمَّا له في الأمر المستشار فيه من هوى يساعده وغرض يقصده. فإنَّ الأغراض جاذبة، والهوى صاد، والرأي إذا عارضه الهوى، وجاذبته الأغراض فسد.

السادسة: الجمع بين العلم بالمستشار فيه، والعمل به. ففي الأفلاطونيات: شاور في أمرك مَنْ جمع بين العلم والعمل ولا تشاور مَنْ انفرد بالعلم فقط، فيدلك منه، على ما يتصوره الفهم ولا يخرج إلى الفعل.

السابعة: كتمان السِّر الذي يطلع عليه عند استشارته. قيل: لأنه إذا اطلع على رأيك، بعض أصدقائه أو غيرهم من جلسائه، أخبر كل صديق صديقه وفاه كل جليس إلى جليسه، حتى يصل أمرك إلى عدوك ويتصل رأيك بأهل بُغْضك، فيبتغون الغوائل، ويفسدون الرأي قبل إحكامه.

الثامنة: سلامته من غائلة الحسد. قيل: لأن الحسد يبعث أهل المحبة على البغضة، وذوي الولاية على البعد والفُرقة، وحينئذٍ يتعمد ضَرُك بجميع الوجوه التي تتقيها على نفسك، وتكون داعية إلى فساد رأيك.

التاسعة: عدم استلزام نصحك ضره، أو ضُرَّ أحدٍ من الأعزة عليه. قيل: لأنه إذا أدّى نصحك إلى ضُرّه أو بعض شيء من أمره، لم يفضّلك على نفسه ولم يخصُك بنصحه وكذا إن أضرَّ ذلك بإخوانه.

العاشرة: إخباره عن موجب تقصيره عن مطلوب المستشير له، كالبخل والجبن والحرص. فقد كان يقال: لا تدخل في رأيك بخيلاً، فيقصر فعلك، ولا جباناً فيخوفك ما لا تخاف، ولا حريصاً، فيعدك ما لا يُرجى.

فإذا استُكملت هذه الخصال في رجل، كان أهلاً للمشورة ومعدناً للرأي، فلا يُعْدل عن استشارته، اعتماداً على ما يتوهمه المستشير من فضل رأيه. فإنَّ رأي غير ذي الحاجة أسلم، وهو من الصواب أقرب لخلوص الفكر وخلو الخاطر مع عدم الهوى وارتفاع الشهوة.

وهنا ننبِّه على أنه ينبغي ألا يمنع من المشورة وصفان:

أحدهما: خمول المستشار وحقارته. فإنَّ الحكمة ضالة المؤمن، حيثما وجدها عقلها. قال الطرطوشي: ولم يزل العقلاء على اختلاف مذاهبهم يطلبون صواب الرأي من كل أحد حتى الأمة الوكعاء.
الثاني: صغر سنه، لأنه ربما فاق في إدراك الصواب الكهول والمشايخ. فقد كان يقال: عليكم بآراء الأحداث ومشاورة الشباب. فإنَّ لهم أذهاناً تفل الفواصل وتحطم الذوابل.

أ . د / زيد بن محمد الرماني ــــ المستشار الاقتصادي وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
للتواصل : [email protected]