قُبِلتُ في الوظيفة في سنّ أقلّ من (20) عاماً، وعند قبولي غمرتني الفرحة مثل غيري من المقبولين، وعند ذلك بدأتُ بتأسيس أحلامي (المليونية) حتى أصبحتُ مثقلاً بمشاريع اكتشفت فيما بعد أن أغلبها خيالية لا يمكن تحويلها إلى حقيقة، فقد كانت مشاريعي أكبر من إمكانياتي، وأكبر من حلم الصين في تحقيقها لطريق الحرير بفرعيه الجنوبي والشمالي.

جاهل ومتهور وأزعم أني طموح وكنت أظنّ أنّ كل شيء بمتناول اليد، وعند أول يوم مباشرة لعملي بعد انتهاء فترة التدريب، كانت الصدمة وبدأت مشاريعي الضخمة تتضاءل تدريجياً، وتقلّ أهميتها عندي بسبب قساوة العمل وعدة عوامل أخرى.

رغم انتقالي من قريتي النائية الهادئة إلى مدينة صاخبة تعج بها حياة مدنية تتطور يوماً بعد يوم إلا أنني أشعر بمرارة الغربة، والحنين إلى قريتي اليافعة، فهي لا تغيب عن مخيّلتي أبداً، ما أقسى لقمة العيش! فقد انتزعتني من بين والديّ وعشيرتي إلى بيئة بعيدة ومختلفة في الثقافة والعادات.

ما زلتُ أتذكّر أول رحلة في الغربة ولحظة الهبوط في مطار تبوك، وركوب(الباص) الذي أوصلنا لمقر العمل، حينها شعرت بانقباض صدري وكآبة استقبلتني عند مدخل سكن (العزاب) الذي كرهته من أول نظرة إليه.

تجاهلت احلامي ومشاريعي، وبدأت تسوّل لي نفسي بترك الوظيفة والبحث عن وظيفة أخرى أكثر دخلاً وأقلّ جهداً، ولكني أدركت أنّ ترك الوظيفة مغامرة بلا ضمان، فلم أحمل مؤهلات علمية عالية تنتشلني من واقعي العصيب، وليس لدي مالاً محترماً أخوض به (دهاليز) التجارة.

نصيبي الليلي من حراسة ثكنات العمل الكئيبة كثيرة ومتكررة، وفي كل حراسة تتعب جفوني من اليقظة والتركيز والمراقبة، ويلامسها النعاس كما يلامس الضباب سودة عسير، وفي كل حراسة ليلية للثكنات فهي نابغية، أسامر النجوم، وأفتش في أفكاري لعلّها تصنع لي مخرجاً ينتشلني من واقعي الكئيب، وأختم ليلي بلا بوادر أمل.

ذات يومٍ رأيت مسئولي المباشر الطيّب الوقور/عبيد الفيفي؛ يراقبني خلسة من بعيد، فاقترب مني وقال لي بلطف: يا ولدي أراك مهموماً ما الذي يشغل بالك؟! فتظاهرت أمامه أني سعيد وخالي من القلاقل، فمن طبيعتي أخفي نقاط ضعفي عن الآخرين قدر الاستطاعة.

فبادرني مباشرة وقال: يا ولدي لقمة العيش صعبة والحفاظ عليها يحتاج إلى صبر، ودع عنك الركون إلى الضعف، فأشار بيده على جموع غفيرة من الزملاء حولنا وقال: انظر لهذه الجموع؛ هل أنت أفضل منهم؟! وزودني بنصائح جميلة ما زالت راسخة بالذاكرة، فكانت كفيلة برفع معنوية روحي شبه المحطَمة.